سورة الرعد - تفسير تفسير الشعراوي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الرعد)


        


{المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ(1)}
وقد سبق لنا أن تكلمنا طويلاً في خواطرنا عن الحروف التي تبدأ بها بعض من سور القرآن الكريم: مثل قوله الحق: {الم} [البقرة: 1].
وقوله: {المر...} [الرعد: 1].
ومثل قوله: {المص} [الأعراف: 1].
وغير ذلك من الحروف التوقيفية التي جاءتْ في أول بعض من فَواتِح السُّور.
ولكن الذي أُحب أن أؤكد عليه هنا هو أن آيات القرآن كلها مَبْنية على الوَصْل؛ لا على الوَقْف؛ ولذلك تجدها مَشْكُولة؛ لأنها مَوْصُولة بما بعدها.
وكان من المفروض لو طبَّقْنَا هذه القاعدة أن نقرأ (المر) فننطقها: (ألفٌ) (لامٌ) (ميمٌ) (راءٌ)، ولكن شاء الحق سبحانه هنا أن تأتي هذه الحروف في أول سورة الرعد مَبْنية على الوقف، فنقول: (ألفْ) (لامْ) (ميمْ) (راءْ).
وهكذا قرأها جبريل عليه السلام على محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم؛ وهكذا نقرأها نحن.
ويتابع سبحانه: {تِلْكَ آيَاتُ الكتاب...} [الرعد: 1].
أي: أن السورة القادمة إليك هي من آيات الكتاب الكريم القرآن وهي إضافة إلى ما سبق وأُنْزِل إليك، فالكتاب كله يشمل من أول {بسم الله الرحمن الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 1].
في أول القرآن، إلى نهاية سورة الناس.
ونعلم أن الإضافة تأتي على ثلاث مَعَانٍ؛ فمرَّة تأتي الإضافة بمعنى (من) مثل قولنا (أردب قمح) والمقصود: أردب من القمح.
ومرة تأتي الإضافة بمعنى (في) مثل قولنا: (مذاكرة المنزل) والمقصود: مذاكرة في المنزل.
ومرة ثالثة تأتي الإضافة بمعنى (اللام) وهي تتخذ شَكْليْنِ.
إمَّا أن تكون تعبيراً عن ملكية، كقولنا (مالُ زيدٍ لزيد).
والشكل الثاني أن تكون اللام للاختصاص كقولنا (لجام الفرس) أي: أن اللجام يخص الفرس؛ فليس معقولاً أن يملك الفرس لِجَاماً.
إذن: فقول الحق سبحانه هنا: {تِلْكَ آيَاتُ الكتاب...} [الرعد: 1].
يعني تلك آياتٌ من القرآن؛ لأن كلمة (الكتاب) إذا أُطلِقتْ؛ فهي تنصرف إلى القرآن الكريم.
والمثل هو القول (فلانٌ الرجل) أي: أنه رجل حقاً؛ وكأن سُلوكه هو مِعْيار الرجولة، وكأن خِصَال الرجولة في غيره ليست مُكْتملة كاكتمالها فيه، أو كقولك (فلان الشاعر) أي: أنه شاعر مُتميِّز للغاية.
وهكذا نعلم أن كلمة (الكتاب) إذا أُطْلِقتْ ينصرف في العقائد إلى القرآن الكريم، وكلمة الكتاب إذا أُطِلقت في النحو انصرفتْ إلى كتاب سيبويه الذي يضم قواعد النحو.
ويتابع سبحانه في وصف القرآن الكريم: {... والذي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الحق ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يُؤْمِنُونَ} [الرعد: 1].
ونعلم أن مراد الذي يخالف الحق هو أن يكسب شيئاً من وراء تلك المخالفة.
وقد قال سبحانه في أواخر سورة يوسف: {وَمَآ أَكْثَرُ الناس وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف: 103].
ثم وصف القرآن الكريم، فقال تعالى: {... مَا كَانَ حَدِيثاً يفترى ولكن تَصْدِيقَ الذي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [يوسف: 111].
وهكذا نرى أن الحق سبحانه لا يريد الكَسْب منكم، لكنه شاء أن يُنزِل هذا الكتاب لتكسبوا أنتم: {... ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يُؤْمِنُونَ} [الرعد: 1].
أي: أن أكثر مَنْ دعوتَهُم إلى الإيمان بهذا الكتاب الحق لا يؤمنون بأنه نزل إليك من ربك؛ لأنهم لم يُحسِنوا تأمُّل ما جاء فيه؛ واستسلموا للهَوَى. وأرادوا السلطة الزمنية، ولم يلتفتوا إلى أن ما جاء بهذا الكتاب هو الذي يعطيهم خير الدنيا والآخرة.
ويقول سبحانه بعد ذلك: {الله الذي رَفَعَ السماوات...}.


{اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ(2)}
وكلمة (الله) عَلَمٌ على واجب الوجود؛ مَطمورة فيه كُلُّ صفات الكمال؛ ولحظةَ أنْ تقول (الله) كأنك قُلْتَ (القادر) (الضار) (النافع) (السميع) (البصير) (المُعْطي) إلى آخر أسماء الله الحسنى.
ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: «كُلُّ عمل لا يبدأ باسم الله هو أبتر».
لأن كل عمل لا يبدأ باسمه سبحانه؛ لا تستحضر فيه أنه سبحانه قد سَخَّر لك كُلَّ الأشياء، ولم تُسخِّرْ أنت الأشياء بقدرتك.
ولذلك، فالمؤمن هو مَنْ يدخل على أيِّ عمل بحيثية (بسم الله الرحمن الرحيم)؛ لأنه سبحانه هو الذي ذلَّلَ للإنسان كل شيء، ولو لم يُذلِّلها لَمَا استجابتْ لك أيها الإنسان.
وقد أوضح الحق سبحانه ذلك في أمثلة بسيطة؛ فنجد الطفل الصغير يُمسِك بحبل ويربطه في عنق الجمل، ويأمره بأن (ينخّ) ويركع على أربع؛ فيمتثل الجمل لذلك.
ونجد البرغوث الصغير؛ يجعل الإنسان ساهراً الليل كُلَّه عندما يتسلل إلى ملابسه؛ ويبذل هذا الإنسان الجَهْدَ الجَهِيد لِيُمسِك به؛ وقد يستطيع ذلك؛ وقد لا يستطيع.
وهكذا نعرف أن أحداً لم يُسخِّر أي شيء بإرادته أو مشيئته، ولكن الحق سبحانه هو الذي يذلِّل كُلَّ الكائنات لخدمة الإنسان.
والحق سبحانه هو القائل: {وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ} [يس: 72].
وأنت حين تُقبِل على أيِّ عمل يحتاج إلى قدرة فتقول: (باسم القادر الذي أعطاني بعض القدرة).
وإنْ أقبلتَ على عمل يحتاج مالاً؛ تقول: (باسم الغني الذي وَهَبنِي بعضاً من مال أقضي به حاجتي).
وفي كل عمل من الأعمال التي تُقبِل عليها تحتاج إلى قدرة؛ وحكمة؛ وغِنىً، وبَسْط؛ وغير ذلك من صفات الحق التي يُسخِّر بها سبحانه لك كُلَّ شيء؛ فشاءتْ رحمتُه سبحانه أنْ سَهَّل لنا أن نفتتح أيَّ عمل باسمه الجامع لكل صفات الجمال والكمال (بسم الله الرحمن الرحيم).

ولذلك يُسَمُّونه (عَلَمٌ على واجب الوجود).
وبقية الأسماء الحسنى صفات لا توجد بكمالها المُطْلق إلاَّ فيه؛ فصارتْ كالاسم.
فالعزيز على إطلاقه هو الله. ولكِنَّا نقول عن إنسان ما (عزيزُ قومِه)، ونقول (الغَنيّ) على إطلاقه هو الله، ولكِنْ نقول (فلان غنيّ) و(فلان فقير).
وهكذا نرى أنها صفاتٌ أخذتْ مرتبة الأسماء؛ وهي إذا أُطِلقَتْ إنما تشير إليه سبحانه.
وعرفنا من قَبْل أن أسماء الله؛ إما أن تكون أسماءَ ذات؛ وإما أن تكون أسماءَ صفات؛ فإنْ كان الاسم لا مقابل له فهو اسمُ ذاتٍ؛ مثل: (العزيز).
أما إنْ كان الاسم صفةَ الصفة والفعل، مثل (المُعِز) فلابُدَّ أن له مقابلاً، وهو هنا (المُذِلّ).
ولو كان يقدر أنْ يُعِزَّ فقط؛ ولا يقدر أن يُذِلَّ لما صار إلهاً، ولو كان يضر فقط، ولا ينفع أحداً لَمَا استطاع أن يكون إلهاً، ولو كان يقدر أنْ يَبسُطَ، ولا يقدر أن يقبض لما استطاع أنْ يكون إلهاً.
وكل هذه صفات لها مُقَابِلها؛ ويظهر فعْلُها في الغير؛ فسبحانه على سبيل المثال عزيزٌ في ذاته؛ ومُعِزٌّ لغيره، ومُذِلٌّ لغيره.
وكلمة (الله) هي الاسم الجامع لكل صفات الكمال، وهناك أسماء أخرى علَّمها الله لبعض من خلقه، وهناك أسماء ثالثة سنعرفها إنْ شاء الله حين نلقاه: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22-23].
ونلحظُ أن الحق سبحانه بدأ هذه الآية بالحديث عن العالم العُلْوي أولاً؛ ولم يتحدث عن الأرض؛ فقال: {الله الذي رَفَعَ السماوات...} [الرعد: 2].
وكلمة (رفع) إذا استعملتَها استعمالاً بشرياً؛ تدلُّ أن شيئاً كان في وَضْع ثم رفعتَه عن موضعه إلى أعلى؛ مثل قول الحق سبحانه: {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى العرش...} [يوسف: 100].
فقد كان أَبَوا يوسف في موضع أقلّ؛ ثم رفعهما يوسف إلى موضع أعلى مما كَانَا فيه، فهل كانت السماء موضوعة في موضع أقلّ؛ ثم رفعها الله؟ لا، بل خلقها الله مرفوعة.
ورَحِم الله شيخنا عبد الجليل عيسى الذي قال: (لو قلت: سبحان الله الذي كبَّر الفيل؛ فهل كان الفيل صغيراً ثم كبَّره الله؛ أم خلقه كبيراً؟ لقد خلقه الله كبيراً. وإنْ قلت: سبحان الله الذي صغَّر البعوضة؛ فهل كانت كبيرة ثم صَغَّرها الله؟ لا بل خلقها الله صغيرة).

وحين يقول سبحانه: {الله الذي رَفَعَ السماوات بِغَيْرِ عَمَدٍ...} [الرعد: 2].
فهذا يعني أنه خلقها مرفوعة، وفي العُرْف البشري نعرف أن مُقْتضى رَفْع أيِّ شيء أَنْ تُوجَد من تحته أعمدة ترفعه.
ولكن خلقَ الله يختلف؛ فنحن نرى السماء مرفوعة على امتداد الأفق؛ ويظهر لنا أن السماء تنطبق على الأرض؛ ولكنها لا تنطبق بالفعل.
ولم نجد إنساناً يسير في أيِّ اتجاه ويصطدم بأعمدة أو بعمود واحد يُظَنُّ أنه من أعمدة رَفْع السماء؛ وهي مَرْئية هكذا؛ فهل هناك أعمدة غير مَرْئية؛ أم لا توجد أعمدة أصلاً؟.
وقد يكون وراء هذا الرَّفْع أمر آخر؛ فقد قلنا: إن الشيء إذا رُفع؛ فذلك بسبب وجود ما يُمسكه أو ما يَحْمله؛ وسبحانه يقول في أمر رفع السماء: {... وَيُمْسِكُ السمآء أَن تَقَعَ عَلَى الأرض إِلاَّ بِإِذْنِهِ إِنَّ الله بالناس لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ} [الحج: 65].
فإذا كانت مَمْسُوكة من أعلى؛ فهي لا تحتاج إلى عَمَد، وقوله الحق:(يمسك) يعني أنه سبحانه قد وضع لها قوانينها الخاصة التي لم نعرفها بَعْدُ.
وقد قام العلماء المعاصرون بمَسْح الأرض والفضاء بواسطة الأقمار الصناعية وغيرها، ولم يجدوا عَمَداً ترفع السماوات أو تُمْسِكها.
والمهندسون يتبارَوْنَ في عصرنا لِيرفعوا الأسْقُفَ بغير عَمَدٍ؛ لكنهم حتى الآن؛ مازالوا يعتمدون على الحوائط الحاملة.
وهكذا نعلم أنه سبحانه إمَّا أنه حمل السماء على أعمدة أدقّ وألطفَ من أن تراها أعيننا؛ ولذلك نراها بغير أعمدة، أو أنها مرفوعة بلا أعمدة على الإطلاق.
و(عَمَد) اسم جمع لا جمع ومفردها (عمود) أو (عِمَاد) وقد جاءتْ هذه الآية بمثابة التفسير لِمَا أُجمِل في قول الحق سبحانه في سورة يوسف: {وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السماوات والأرض يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} [يوسف: 105].
وجاء سبحانه هنا بالتفصيل؛ فأوضح لنا أنه: {رَفَعَ السماوات بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا...} [الرعد: 2].
أي: لا ترونها أنتم بِحُكْم قانون إبصاركم. ولا تعجب من أنْ يوجد مخلوق لا تراه؛ لأن العينَ وسيلة من وسائل الإدراك، ولها قانون خاص؛ فهي ترى أشياء ولا ترى أشياء أخرى.
هذا بدليل أنك إذا نظرتَ إلى إنسان طوله مِتْران يتحرك مُبْتعداً عنك؛ تجد يَصْغُر تدريجياً إلى أن يتلاشى من مجال رؤيتك؛ لكنه لا يتلاشى بالفعل.
وهذا معناه أن قانون إبصارك مَحْكوم بقانون؛ له مدىً مُحدّد.
وهناك قوانين أخرى مثل: قانون السمع؛ وقانون الجاذبية؛ وقانون الكهرباء؛ وكلها ظواهر نستفيد بآثارها، ولكِنّا لا نراها، فلا تعجب من أن يوجد شيء لا تدركه؛ لأن قُوَى إدراكك لها قوانين خاصة.
ويشاء الحق سبحانه أن يُدلِّل على صدق ذلك بأن يجعل ما يكتشفه العلماء في الكون من أشياء وقُوىً لم تكُنْ معروفة من قبل؛ ولكننا كنا نستفيد منها دون أن ندري؛ مما يدلُّ على أن إدراك الإنسان غَيْرَ قادر على إدراك كل شيء.
وذلك يوضح لنا أن رؤيتنا للسماء مرفوعة بغير عَمَد نراها؛ قد يعني وجود أعمدة مصنوعة بطريقة غير معروفة لنا؛ أو هي مرفوعة بغير عَمَدٍ على الإطلاق.
وقول الحق سبحانه: {بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا...} [الرعد: 2].
هو كلام خبري، والمثل من حياتنا حين تقول لابنك: (أنا خارج إلى العمل؛ وذاكر أنت دروسك)، وبذلك تكون قد أوضحت له: (ذاكر دروسك) وهذا كلام خبريّ؛ لكن المراد به إنشائيّ.
وإبراز الكلام الإنشائي في مَقَام الكلام الخبري له مَلْحظ، مثلما تقول: (فلان مات رحمه الله) وقولك (رحمه الله) كلام خبريّ؛ فأنت تخبر أن الله قد رحمه.
على الرغم من أنك لا تدري: هل رحمه الله أم لا؛ ولكنك قلت ذلك تفاؤلاً أن تكون الرحمةُ واقعة به، وكان من الممكن أن تقول: (مات فلان يا ربي ارحمه)، وأنت بذلك تطلب له الرحمة.
كذلك قول الحق سبحانه: {بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا...} [الرعد: 2].
أي: دَقِّقوا وأمعِنُوا النظر إليها، وابحثوا فيما يعنيكم على ذلك إن استطعتم، وإذا لفتَكَ المتكلم إلى شيء لِيُحرِّك فيك حواسَّ إدراكك فمعنى ذلك أنه واثقٌ من صَنْعته.
والمثل من حياتنا ولله المثل الأعلى، وسبحانه مُنزَّه عن أن يكون له مثل حين تدخل لتشتري صُوفاً؛ فيقدم لك البائع قماشاً؛ فتسأله: هل هذا صوف مائة في المائة؟ فيقول لك البائع: نعم إنه صوف مائة في المائة، وهاتِ كبريتاً لنشعل فتلة منه لترى بنفسك.
ويوضِّح الحق سبحانه هنا: أن السماوات مرفوعة بغير عَمَدٍ، وانظروا أنتم؛ بمَدِّ البصر، ولن تجدوا أعمدة على هذا الامتداد، وضمان عدم وجود أعمدة مُتحقِّق لك ولغيرك على مدى أفُق أيٍّ منكم.
ولكُلِّ إنسان أُفُقه الخاص على حسب قدرة بصره، فهناك من تنطبق السماء على الأرض أمام عيونه؛ فنقول له: أنت تحتاج إلى نظارة طبية تعالج هذا الأمر.
فالآفاق تختلف من إنسان إلى آخر، وفي التعبير اليومي الشائع يقال: (فلان ضَيِّق الأفق لا يرى إلا ما تحت قدميْه).
ولقائل أن يقول: إن هذا يحدث معي ومع مَنْ يعيشون الآن ولا أحد يرى أعمدة ترفع السماوات؛ فهل سيحدث ذلك مع من سيأتون مَنْ بعدنا؟
ونقول: لقد مسحتْ الأقمار الصناعية من الفضاء الخارجي كل مساحات الأرض؛ ولم يجد أحدٌ أية أعمدة ترفع السماء عن الأرض.
وهذا دليل صدق القضية التي قالها الحق سبحانه في هذه الآية: {الله الذي رَفَعَ السماوات بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا...} [الرعد: 2].
والسماوات جمع(سماء) وهي كل ما عَلاَك فأظلَّك، والحق سبحانه يقول: {وَأَنزَلَ مِنَ السمآء...} [البقرة: 22].
ونعلم أن المطر إنما نزل من السُّحُب التي تعلو الإنسان، وتبدو مُعلَّقة في السماء، وإذا أُطِلقتْ السماء انصرفت إلى السماء العليا التي تُظلِّل كل ما تحتها.
وحين أراد الناس معرفة كُنْه السماء، وهل لها جِرْم أم ليس لها جِرْم؛ وهل هي امتداد أجواء وهواء؟ لم يتفق العلماء على إجابة.
وقد نَثَر الحقُّ سبحانه أدلة وجوده، وأدلة قدرته، وأدلة حكمته وأدلة صَنْعته في الكون؛ ثم أعطاك أيها الإنسان الأدلة في نفسك أيضاً؛ وهو القائل سبحانه: {وفي أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ...} [الذاريات: 21].
وانظر إلى نفسك تجد العلماء وهم يكتشفون في كل يوم شيئاً جديداً وسِرّاً عجيباً، سواء في التشريح أو علم وظائف الأعضاء.
وسوف تعجب من أمر نفسك، وأنت ترى تلك الاكتشافات التي كانت العقول السابقة تعجز عن إدراكها، وقد يُدرَك بعضها الآن، ويُدرَك بعضها لاحقاً.
وإدراكُ البعض للمجهول في الماضي يُؤذِن بأنك سوف تدرك في المستقبل أشياء جديدة.
وإن نظرت خارج نفسك ستجد قول الحق سبحانه: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفاق وفي أَنفُسِهِمْ حتى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحق...} [فصلت: 53] ومعنى {سَنُرِيهِمْ...} [فصلت: 53] أن الرؤية لا تنتهي؛ لأن(السين) تعني الاستقبال، ومَنْ نزل فيهم القرآن قرءوها هكذا، ونحن نقرؤها هكذا، وستظل هناك آيات جديدة وعطاء جديد من الله سبحانه إلى أن تقوم الساعة.
وسبحانه القائل: {لَخَلْقُ السماوات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ} [غافر: 57].
وأنت حين تفكر في خَلْق السماوات والأرض ستجده مسألة غايةً في الضخامة؛ ويكفيك أن تتحيّر في مسألة خَلْقك وتكوينك؛ وأنت مجرد فرد محدود بحيّز، ولك عمر محدود ببداية ونهاية، فما بَِالُك بخَلْق السماوات والأرض التي وُجِدَت من قَبْلك، وستستمر من بعدك إلى أن تنشقَّ بأمر الله، وتتكسر لحظتها النجوم.
ولابُدَّ أن خَلْق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس، فالسماوات والأرض تشمل الكون كله.
وحين تُحدَّث عنها إياك أن تخلط فيها بوهمك؛ أو بتخمينك؛ لأن هذه مسألة لا تُدرك في المعامل، ولا تستطيع أن تُجرِي تحليلات لمعرفة كيفية خَلْق السماوات والأرض.
ولذلك عليك أنْ تكتفي بمعرفة ما يطلبه منك مَنْ خلقها؛ وماذا قال عنها، وتذكر قول الحق سبحانه: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ...} [الإسراء: 36].
وقد حجز الحق سبحانه عن العقول المتطفلة أمرين؛ فلا داعي أن تُرهِق نفسك فيهما:
الأمر الأول: هو كيفية خَلْق الإنسان؛ وهل كان قرداً في البداية ثم تطوَّر؟ تلك مسألة لا تخصُّك، فلا تتدخل فيها بافتراضات تؤدي بك إلى الضلال.
والأمر الثاني: هو مسألة خَلْق السماوات والأرض فتقول: إن الأرض كانت جزءاً من الشمس، ومثل هذا الكلام لا يستند إلى وقائع.
وتذكر قول الحق سبحانه: {ما أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السماوات والأرض وَلاَ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ...} [الكهف: 51].
ولو كان الحق سبحانه قد أراد أن تعلم شيئاً عن تفاصيل هذين الأمرين لأشهد خلقهما لبعض من البشر، لكنه سبحانه نفى هذا الإشهاد؛ لذلك ستظل هذه المسألة لُغْزاً للأبد؛ ولن تَحُلًّ أنت هذا اللُّغْز أبداً؛ بل يحلُّه لك البلاغ عن الحقِّ الذي خلق.
وقد أوضح لك أنه قد خلقك من طين، ونفخَ فيك من روحه، فاسمع منه كيفية خَلْقك وخَلْق الكون كله.
ويدل الإعجاز البياني في القرآن على أن بعضاً مِمَّنْ يملكون الطموح العقلي أرادوا أن يأخذوا من القرآن أدلة على صِحَّة تلك النظريات التي افترضها بعض من العلماء عن خَلْق الإنسان وخَلْق الأرض، فيبلغنا الحق سبحانه مقدَّماً ألاّ نصدقهم.
ويقول لنا: {ما أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السماوات والأرض وَلاَ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ المضلين عَضُداً} [الكهف: 51].
والمُضِلّ هو مَنْ يُضِلُّك في المعلومات، هكذا أثبت لنا الحق سبحانه أن هناك مُضلِّين سيأتون ليقولوا كلاماً افتراضياً لا أساسَ له من الصِّحة.
وأوضح لنا سبحانه أن أحداً لم يتلصَّصْ عليه، ليعرف كيفية خَلْق الشمس أو الأرض، ومَنْ يدعي معرفة ذلك فهو من المُضلِّين؛ لأنهم قَفَوْا ما ليس لهم به علم.
ومادام الحق سبحانه قد قال ذلك، فنحن نُصدِّق ما قال.
وقد أثبتت التحليلات صِدْق ما قاله سبحانه عن خَلْق الإنسان، فسبحانه قد خلق الكون أولاً، ثم خلق السيد لهذا الكون وهو الإنسان، وكل الكون مُسخَّر للإنسان ويخدم هذا الخليفة في الأرض، وكل ما في الكون يسير بنظام وانتظام.
والمُتمرد الوحيد في الكون هو الإنسان، فيأتي الحقُّ سبحانه إلى هذا المتمرِّد؛ ليجعل الآية فيه؛ وليثبت صِدْق الغيب في الأرض.
وأوضح سبحانه أنه خلق آدم من الطين؛ والإنسان من نسل آدم الذي سَوَّاه الله، ونفخ فيه من روحه، وبعد ذلك أمر الملائكة؛ من المُدبِّرات أمراً ومن الحَفَظة؛ أنْ تسجدَ للإنسان.
وهذا السجود هو إعلان الطاعة لأمر الله بخدمة الإنسان. هذا الذي بدأت حكاية خَلْقه من تراب، ثم خُلط التراب بالماء؛ ليصير طيناً؛ ثم تُرِكَ قليلاً ليصير حَمَأً مَسْنوناً؛ ثم يجفّ الحَمأ ليصير صَلْصالاً كالفخَّار؛ ثم ينفخ فيه الحق بالروح.
فإذا ما انتهى الأجل؛ فأول ما يُنقض هو خروج الروح؛ ثم يتصلَّب الجثمان، وبعد أن يُوارَى التراب يصير الجثمان رِمّة؛ ثم يتسرَّب الماء الموجود في الجثة إلى الأرض، وتبقى العظام إلى أن تتحول هي الأخرى إلى تراب.
وهكذا يتحقق نَقْضُ كل بناء؛ فما يُبني في نهاية أيِّ بناء هو ما يُنقض أولاً، وهكذا يتأكد لنا صدق الحق سبحانه حين نرى صدق المقابل فيما أخبرنا به سبحانه عن كيفية الخلق.
وعندما يُخبِرنا الحق سبحانه أن كيفية خَلْق السماوات والأرض ليست في مُتَناولنا؛ فقد أعطانا من قبل الدليل على صِدْق ما جاء به، فيما أخبرنا به عن أنفسنا.
وفي الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يقول سبحانه: {الله الذي رَفَعَ السماوات بِغَيْرِ عَمَدٍ...} [الرعد: 2].
وكلمة (السماوات) في اللغة جمع، وفي آية أخرى، يقول سبحانه: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وأوحى فِي كُلِّ سَمَآءٍ أَمْرَهَا...} [فصلت: 12].
وقديماً كانوا يقولون: إن المقصود بالسبع سماوات هو الكواكب السبعة: الشمس، والقمر، وعطارد، والزهرة، والمريخ، والمشترى.
وشاء سبحانه أن يُكذِّب هذا القول وأصحابُه أحياء؛ فرأى علماء الفلك كواكبَ أخرى مثل: نبتون وبلوتو؛ وكان في ذلك لَفْتة سماوية لِمَنْ قالوا: إن المقصود بالسماوات السبع هو الكواكب السبعة.
وقد قالوا هذا القول بحُسْن نية وبرغبة في رَبْط القرآن بالعلم؛ لكنهم نَسُوا أن يُدقِّقوا الفهم لِمَا في كتاب الله، فسبحانه قد أوضح أن الشمس والقمر والكواكب زينة السماء الدنيا، فما بالُنَا بطبيعة وزينة بقية السماوات؟
ويتابع سبحانه: {ثُمَّ استوى عَلَى العرش...} [الرعد: 2].
وهذه قضية هي أهمُّ قضية كلامية ناقشها علماء الكلام؛ قضية الاستواء والعرش، وحتى نفهم أيَّ قضية لابُدَّ أن نُحلِّل ألفاظها لنتفقَ على معانيها، ثم نبحثها جملة واحدة، لكن أن نجلس لنتجادل ونحن غير مُتوارِدين ومتفقين على فَهْم واحد؛ فهذا أمرٌ لا يليق.
ولننظر الآن معنى (الاستواء) ومعنى (العرش)، ونحن حين نستقرئ كلمة (استوى) في القرآن نجدها قد وردتْ في آيات متعددة.
وجاءت مرّة واحدة بمعنى الاستواء أي: النضج، في قول الحق سبحانه: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ واستوى آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً...} [القصص: 14].
أي: أنه قد بلغ نُضْجه الكماليّ، ويستطيع أن يكون رجلاً صالحاً لممارسة ما يُبقِي نوعه، وإنْ تزوج فسلوف يُنجِب مثله؛ وهذا استواء لمخلوق هو الإنسان.
ومرة أخرى يقول القرآن: {ذُو مِرَّةٍ فاستوى وَهُوَ بالأفق الأعلى} [النجم: 6-7].
والمعنى هنا هو: صعد؛ والمقصود هو صعود محمد وجبريل عليهما السلام إلى الأفق الأعلى.
وهناك قوله الحق: {ثُمَّ استوى إِلَى السمآء فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ...} [البقرة: 29].
أي: أنه سبحانه قد استوى إلى السماء؛ وإياك أن تظن أن استواءه سبحانه إلى السماء مساو لاستواء البشر؛ لأننا قلنا من قبل: إن كل شيء بالنسبة لله إنما نأخذه في إطار: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ...} [الشورى: 11].
وبذلك يكون استواؤه سبحانه إلى السماء هو استواء يليق بذاته، والاستواء المطلق شيء مختلف عن الاستواء على العرش.
وهكذا نجد استواءً لغير الله من إنسان؛ وهناك استواء لغير الله من إنسان ومن ملك؛ وهناك استواء من الله إلى غير العرش. وبجانب ذلك هناك استواء على العرش.
وقد وردَ الاستواء على العرش في سبعة مواقع بالقرآن؛ في: سورة الأعراف؛ وسورة يوسف؛ والرعد، وطه، والفرقان، والسجدة، والحديد.
وورد ذكر العرش في القرآن بالنسبة لله واحداً وعشرين مرَّة، وورد بالنسبة لبلقيس أربع مرات؛ فهو القائل سبحانه: {... وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} [النمل: 23].
وقال: {أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا...} [النمل: 38].
ثم قال: {نَكِّرُواْ لَهَا عَرْشَهَا...} [النمل: 41].
وقال: {أَهَكَذَا عَرْشُكِ...} [النمل: 41].
وبالنسبة ليوسف قال سبحانه: {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى العرش...} [يوسف: 100].
وإيَّاك أن تأخذ الاستواء بالنسبة لله على أن معناه (النُّضْج)؛ لأن النُّضْجَ إشعارٌ بكمالٍ سَبقه نَقْصٌ.
ولذلك نجد العلماء المُدقِّقين قد عَلِمُوا أن ذِكْر استواء الله على العرش قد ورد في سبعة مواضع بالقرآن الكريم وقالوا:
وَذِكْرُ اسْتواءِ اللهِ فِي كَلِمَاتِه عَلى *** العَرْشِ في سَبْعِ مَوَاضِع فَاعْدُدِ
فَفِي سُورَةِ الأعْرَافِ ثُمَّةَ يُونُسَ *** وَفِي الرَّعْدِ مع طَه فَلِلْعَدِّ أَكِّدِ
وَفِي سُورَةِ الفُْرقَانِ ثُمَّة سَجْدة *** كَذَا في الحدِيدِ افْهمْهُ فَهْم مُؤيَّدِ
وقالوا في المعنى:
فَلَهُمْ مَقالاتٌ عَليْهَا أَرْبعة *** قََدْ حُصِّلَتْ لِلْفارسِ الطَّعَّانِ
وَهي اسْتقرَّ وقَدْ عَلاَ *** وَكذلِكَ ارتَفَع مَا فِيهِ مِنْ نُكْرانِ
وَكَذاكَ قَدْ صَعَد الذِي هُوَ رَابِعٌ *** بِتمَامِ أمْرٍ مِنْ حِمَى الرَّحمَانِ
والصعود إلى العرش هو حركة انتقال من وضع إلى وضع لم يَكُنْ فيه.
وهكذا نجد أن المعاني التي تتمشَّى مع الاستواء في عُرْفنا البشري لا تتناسب مع كمال الله.
واختلف العلماء: قال واحد منهم: (سآخذ اللفظ كما قاله الله).
ونردُّ على هذا بسؤال: وهل يمكنك أن تُغَيِّبَ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ...} [الشورى: 11].
طبعاً، لا أحدَ يستطيع ذلك، وعليك أن تأخذ كل فَهْمٍ لشيء يخصُّ الذات العَلية في إطار: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ...} [الشورى: 11].
ولذلك نجد أهل الدِّقة يقولون: الاستواء معلوم، والكَيْف مجهول، والسؤال عنه الكيفية بدعة؛ لأن المعاصرين لرسول الله صلى الله عليه وسلم لم يسألوا عن تلك الكيفية، رغم أنهم سألوا عن كثير من الأمور.
وهناك آيات متعددة تبدأ بقول الحق سبحانه: {يَسْأَلُونَكَ...} [البقرة: 189].
وكان السؤال وارداً بالنسبة لهم؛ لكنهم بملكتهم العربية الفطرية قد فَهِموا الاستواء كشيء يناسب الله، فلم يسألوا عنه.
وجاء السؤال من المتأخرين الذين تمحَّكوا، فقال واحد: سآخذ الألفاظ بمعناها؛ فإن قال: إن له صعوداً؛ فهو يصعد، وإنْ قال: إن له استواء فهو يستوي.
ولِمَنْ قال ذلك نردُّ عليه: إن ما تقوله صالحٌ للأغيار، ولا يليق أن تقول ذلك عن الذي يُغيِّر ولا يتغيَّر. وإذا سألتَ عن معنى كلمة(استواء) فهو(استتب له الأمر) . وهل كان الأمر غير مستتب له سبحانه؟
ونقول: نحن نعلم أن لله سبحانه وتعالى صفات متعددة، وهذه الصفات كانت موجودة قبل أن يخلق الله الخَلْق والكون؛ فسبحانه موصوفٌ أنه خالق قبل أنْ يخلق الخَلْق، ومُعِزٌّ قبل أن يخلق مَنْ يُعزّه، ومُذِلّ قبل أنْ يخلق مَنْ يُذِلّه، وله سبحانه صفاتُ الكمال المُطْلق.

وبهذه الصفات خلق الخلق، يقول الحق: {... رَبُّنَا الذي أعطى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هدى} [طه: 50].
وكذا نؤمن بأن صفة الخَلْق كانت في ذاته قبل أن يخلق خَلْقه، وحين خلق سبحانه السماوات والأرض أبرز الصفة التي كانت موجودة فيه وليس لها مُتعلِّق؛ فأوجد هو سبحانه المُتعلِّق، وهكذا استتبَّ له الأمر سبحانه.
إذن: إذا ذُكِر استواءُ الله، فهذا يعني تمامَ المُرَاد له، فصار للصفات التي كانت فيه، وليس لها مُتعلِّق أو مَقْدُور؛ مُتعلِّق ومَقْدور.
وإذا وُجِدَتْ هذه الصفة في البشر مثل بلقيس التي وصفها سبحانه: {... وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} [النمل: 23].
فهي تختلف عن صِفَة الله؛ لأنها لم تجلس على العرش إلا بعد أن خلقها الله، ولا يستتب الأمر لملك أو ملكة إلا بمتاعب ومعارك، وقد ينشغل هذا الشخص في معارك وحروب، ثم يستتبّ له الأمر.
وهكذا يختلف استواءُ الله عن استواءِ خَلْق الله، وإذا ذُكر استواء الله على العرش؛ فنحن نُنزِّه الله عن كل استواء يناسب البشر، ونقول: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ...} [الشورى: 11].
واستواؤه هو تمام الأمر له، لأن أمره صادر، وعند تحقيق أمره في توقيته المراد له يكون تمام الأمر، وتمام الأمر استواؤه، أما كلمة(العرش) فنحن نجدها في القرآن بالنسبة لله.
إما مُضَافاً لاسم ظاهر: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ...} [الحاقة: 17].
وإما مُضَافاً للضمير المخاطب أو الغائب: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المآء...} [هود: 7].
وإما مضافاً للتنسيب: {... فَسُبْحَانَ الله رَبِّ العرش عَمَّا يَصِفُونَ} [الأنبياء: 7].
ويقول الحق سبحانه في نفس الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها: {وَسَخَّرَ الشمس والقمر...} [الرعد: 2].
والتسخير هو طلب المُسخِّر أن يكون كما أراده تسخيراً، بحيث لا تكون له رغبة، ولا رَأْي، ولا هَوَى، والتسخير ضِدُّه الاختيار.
والكائن المُسخَّر لا اختيارَ له، أما الكائن الذي له اختيار فهو إنْ شاء فعل، وإنْ شاء لم يفعل.
وقُلْنا قديماً: إن الحق سبحانه قد خَيَّرَ الإنسان: {إِنَّا عَرَضْنَا الأمانة عَلَى السماوات والأرض والجبال فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنسان إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} [الأحزاب: 72].
وبذلك قَبِل الإنسان أداء الأمانة وَقْتَ أدائها؛ لا وَقْتَ تحمُّلها، ووقت الأداء غير وقت التحمُّل، وضربتُ المَثَل بمَنْ يقول لصديقه (عندي ألف جنيه؛ وأخاف أنْ يضيعوا مِنِّي؛ فاحفظهم لي معك؛ وحين أحتاجهم اعْطِهمْ لي).
ويقول الصديق: (هَاتِ النقود وسأُعطِيها لك وقت أنْ تطلبها).
والصديق صادقٌ وقت تحمُّل الأمانة؛ لكن ظروفاً تمرُّ عليه، فيتصرَّف في هذه الأمانة؛ وحين يطلبها صاحبها؛ قد يعجز حامل الأمانة عن رَدِّها، وهو بذلك ضَمِنَ نفسه وقت التحمُّل؛ لكنه لم يضمن نفسه وقت الأداء.
وكان من الواجب عليه أن يقول لصديقه لحظةَ أنْ طلب منه ذلك: (أرجوك، ابتعد عنِّي لأنِّي لا أضمن نفسي وَقْت الأداء).
وقد أَبَتِ السماء والأرض والجبال تحمُّل الأمانة وَقْت عَرْضِها؛ وقَبِلتْ كل منهم التسخير؛ فلا الجبال ولا السماوات ولا الأرض لها قدرة الاختيار، ولا هَوى لأيٍّ منها في هذه القدرة؛ مثلها في ذلك مثل كل أجناس الكون ما عدا الإنسان؛ ولم نجد فساداً في الأرض قد نشأ من ناحية المُسخَّرات.
أما الإنسان فقد قَبِل تحمُّل الأمانة؛ لأن له عقلاً يُفكِّر ويختار؛ ومن الاختيار ونتيجة للهوى جاء الفساد في الكون، ولو أقبل الإنسان على العمل وكأنه مُسخَّر خاضع لمنهج الله؛ لاستقام عمل الإنسان مِثْلما يستقيم عَمَلُ كل الكائنات المُسخَّرة بأمر الله.
فإن أردتم أن تستقيمَ أموركم فيما لكم فيه اختيار، فطبِّقوا قول الحق سبحانه: {أَلاَّ تَطْغَوْاْ فِي الميزان وَأَقِيمُواْ الوزن بالقسط وَلاَ تُخْسِرُواْ الميزان} [الرحمن: 8-9].
وانظروا ماذا يطلب الحق منكم في منهجه، فإنْ نفَّذتم المنهج تَسْتقِمْ أموركم، كما استقامتْ الكائنات المُسخَّرة.
ولا يأتي الخَلَل إلا من أننا نحن البشر نقوم ببعض الأعمال باختيارنا، وتكون مخالفة لمنهج المُشرِّع، أما إذا كنا نؤدي أعمالنا ونضع نُصْب أعيننا قول الحق سبحانه: {أَلاَّ تَطْغَوْاْ فِي الميزان} [الرحمن: 8].
فلسوف تكون أعمالنا مُطابِقة لمنهج الله، وسنجد في أعمالنا ما يَسرُّنا مثل سرورنا حين نجد الأفلاك منتظمة بدقة وحساب.
إذن: فالفساد لا يأتي إلا من الاختيار غير المُرْتجي لمنهج مَنْ خلق فينا الاختيار، وإن كنت تريد أن تكون مختاراً؛ فعليك أن تلتزم بمنهج مَنْ خيَّرك.
ولذلك نجد الصالحين من خَلْق الله قد ساروا على منهج ربهم؛ والتزموا باختيار مراد ربهم فيما لهم فيه اختيار؛ فصاروا وكأنهم مُسخَّرون لمُرَادات الله.
وهؤلاء يسمُّونهم (العباد) لا (العبيد)؛ فكل مملوك لله من العبيد؛ آمن به أو كفر؛ أطاع أو عصى؛ أما العباد فَهُمْ مَنْ جعلوا مرادات الله هي اختيارهم، يقول تعالى: {وَعِبَادُ الرحمن الذين يَمْشُونَ على الأرض هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً} [الفرقان: 63].
هؤلاء هم مَنِ اتجهوا بالاختيار إلى ما يختاره لهم الله.
ونجد الحق سبحانه يقول في الملائكة: {عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ لاَ يَسْبِقُونَهُ بالقول وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الأنبياء: 26-27].
وإذا ما التزم العبد بمنهج ربه في حال الاختيار؛ فهو لا يتساوى مع الملائكة فقط، بل قد يسمو عنهم؛ لأنهم مَقْهورون بالتسخير؛ بينما تتمتع أنت بالاختيار؛ وآثرْتَ منهج ربك.
ويقول الحق سبحانه هنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها: {وَسَخَّرَ الشمس والقمر كُلٌّ يجري إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى...} [لقمان: 29].
ولحظةََ تجد التنوين مثل (كلٌّ) فهذه يعني كُلاّ من السابق. أي: الشمس والقمر. أما الجَرْي إلى أَجَلٍ مُسمّى؛ فيقتضي مِنَّا أن نفهم معنى الجَرْي؛ وهو تقليل الزمن عن المسافة.
فحين تريد الوصول إلى مكان مُعيَّن فقد تمشي الهُوَيْنا؛ لِتَصِلَ في ساعة زمن، وقد تجري لتقطع نفس المسافة في نصف ساعة؛ والجَرْي بطبيعة الحال ملحوظ مِمَّن يراك.
لكن: هل يرى أحدنا الشمس وهي تجري؟
لا، لأنها تجري في ذاتها؛ ويُسمَّى هذا النوع من الجري «جري انسيابي». أي: لا تدركه بالعين المجردة، وهناك ما يُسمّى (انتقال قفزي)، وهناك ما يُسمّى (انتقال انسيابي).
وانظر إلى عقارب الساعة؛ ستجد عقربَ الثَّواني أسرعَ من عقرب الدقائق الذي يبدو ساكناً رغم أنه يتحرك؛ وأنت ترى حركة عقرب الثواني؛ لأنها تتم قَفْزاً؛ بينما لا ترى حركة عقرب الدقائق؛ لأنه يتحرك تِبَعاً لدورة هادئة من التروس داخل الساعة؛ وكل جزئية في حركة التُّرْس الخاص بعقرب الدقائق تتأثر بحركة تُرْس عقرب الثَّواني؛ والحركة القفزية لعقرب الثواني تتحول إلى حركة انسيابية في عقرب الدقائق.
وحركة كل من العقربين تتحول إلى حركة أكثر انسيابية في عقرب الساعات، وهذا يعني أن كل جزئية من الزمن فيها جزئية من الحركة.
وحتى في النمو بالنسبة للإنسان أو الحيوان أو النبات، تجد عملية النمو غير ظاهرة لك؛ لأن الكائن الذي ينمو إنما ينمو بقدر بسيط غير ملحوظ، وهذا القدر البسيط شائع في اليوم كله.
وإن أردتَ أن تعرف هذه المسألة أكثر، انظر إلى الظل، وأنت ترى الظل واضحاً ساعةََ سطوع الشمس، ثم ينحسر الظل بانحسار الشمس.
واقرأ قول الحق سبحانه: {أَلَمْ تَرَ إلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظل وَلَوْ شَآءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً} [الفرقان: 45].
أي: أن الظل متحرك وغير ثابت، وكل جزئية من الزمن تؤثر في حركة الشمس، فيتأثر بها الظل.
وهكذا يجب أن نُفرِّق بين الحركة القفزية والحركة الانسيابية، وحين تقدمنا في العلم نجدهم يقولون: سنزيد من الحركة الانسيابية عن الحركات القفزية .
وهنا يقول الحق سبحانه: {وَسَخَّرَ الشمس والقمر كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى...} [الرعد: 2] والأجل هو المدة المحدودة للشيء؛ وهي محدودة زمناً إنْ أردنا ظرف الزمان؛ أو محدودة بالمسافة إن أردنا المكان.
والمقصود هنا بالأجل؛ إما الأجل النهائي لوجود الشمس والقمر؛ ثم إذا انشقتْ السماء كُوِّرتْ الشمس، وانكدرت النجوم.
أو: أن المقصود هنا بالأجل هو للتعبير عن عملها اليومي.
وقد عرفنا أن هناك مطالع متعددة للشمس، وعلى الرغم من أن المشرق له جهة عامة واحدة؛ لكن المطالع مختلفة، بدليل أن قدماء المصريين أقاموا في بعض المعابد طاقاتٍ وفتحاتٍ في البناء.
فتطلع الشمس كُلَّ يوم من أحد هذه الطاقات؛ فكل يوم توجد لها منزلة مختلفة عن اليوم السابق، وتظل تقطعها، ثم تعود مرة أخرى، وتفعل ذلك إلى أجل مُسمّى أي يومياً.
ونُسمِّي نحن تلك المنازل(البروج) كبرج الحَمَل؛ والجَدي؛ والثور؛ والأسد؛ والسنبلة؛ والقوس؛ والحوت؛ ونحن نرصد هذه الأبراج كوسيلة لمعرفة أحوال الطقس من حرارة، وبرودة، ومطر، وغير ذلك، ذلك أن كُلَّ برج له زمن، ويمكن تعريف أحوال الجو خلال هذا الزمن بدقة.
ولكن بعضاً من تصرفات الإنسان تفسد عملية التحديد الدقيق في الكون، مثلما يشعل البعض الحرائق في الغابات؛ فتحرق النار الأكسوجين الذي يحتاجه البشر والحيوانات للتنفس، ويحاول الغلاف الجوي أن يتوازن، فيشُدّ كميات من الهواء من منطقة أخرى، فيختلّ ميزان الطقس لأيام.
وكذلك يفسد الجو من التجارب الذرية التي تُجريها الدول أعضاء النادي الذري؛ تلك التجارب التي تقوم بتفريغ الهواء، فتجعل الطقس غَيْرَ مُسْتقر وغير منضبط؛ وهذا ما يفسد استخدامنا للأبراج كوسيلة لمعرفة تقلُّبات الطقس.
وقد أوجز الشاعر تلك الأبراج في قوله:
حَملَ الثورُ جَوْزةَ السَّرطَانِ *** ورعى الليث سنبل الميزان
عَقْرب القَوْس جَدْي دَلْو وحُوت *** مَا عَرفْنَا مِنْ أُمةِ السُّرْيَانِ
ويتابع الحق سبحانه في نفس الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها: {... يُدَبِّرُ الأمر يُفَصِّلُ الآيات لَعَلَّكُمْ بِلِقَآءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ} [الرعد: 2].
وسبحانه قد أوضح من أول الآية مسألة رَفْع السماوات بغير عَمَدٍ، واستوائه على العرش، وتسخير الشمس والقمر، وكيف يجري كُلُّ شيء لأجل مُسمّى.
وكُلُّ ذلك يتطلب تدبيراً للأمر بعد أن أبرز القدرة؛ ثم يصون ذلك كله، فكما قَدَّر فخلق، فهو يُدبِّر بقيوميته، فهو القائم على كل شيء، وسبحانه كل يوم هو في شَأْن.
وأقول هذا المثل لأوضح لا لأُشبِّه فسبحانه مُنَزَّه عن التشبيه ونحن نقول: فلان فكَّر أولاً ثم دبَّر، والتفكير هو العملية التي تبحث فيها عن الشيء لإخراج المطلوب منه؛ كأن تأتي بقليل من حبوب القمح لتفركه بيدك لتخرج القمحة من قشرته.
هذا هو التفكير الذي يطلب منك أن تبحث وتُنقِّب إلى أن تصل إلى لُبِّ الأشياء.
والتدبُّر يقتضي ألاَّ تقتنع بما هداك إليه فكرك في نفس اللحظة، ولكن أن تُمحِّص الأمر لترى ماذا سينتج عن تنفيذ ما وصل إليه فكرك؟
فربما ما فكرتَ فيه يُسعِفك ويُعينك في لحظتِكَ الحالية؛ لكنه سيأتي لك بعَطَبٍ بعد قليل.
والمَثَلُ الذي أضربه على مثل هذه الحالة دائماً هو اختراع المُبيدات الحشرية؛ ولم يَفْطِنوا إلى أن هذه المبيدات لا تقتل الحشرات الضارة وحدها، بل تُسمِّم الطيور التي كانت تفيد الفلاح.
ووصل الأمر إلى حَدِّ تحريم استخدام هذه المبيدات؛ وجاء هذا التحريم ممن تفاخروا من قَبْل على كل شعوب الأرض باختراعهم لتلك المبيدات، فقد فَطِنوا إلى أنَّ ما جاءهم من خَير عن طريق تلك المبيدات هو أقلُّ بكثير من الضُّرِّ الذي وقع بسببها.
وهذا يعني أنهم لم يتدبروا اختراعهم لتلك المبيدات؛ فقاموا بتصنيعها لفائدة عاجلة، دون أن يتلفتوا إلى الخطورة الآجلة، وكان لابُدَّ لهم أن يتدبروا الأمر، لأن التدبُّر معناه النظر في دُبُر الأشياء.
والحق سبحانه هو القائل: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القرآن أَمْ على قُلُوبٍ أَقْفَالُهَآ} [محمد: 24].
أي: لا تنظر إلى واجهة الآية فقط، بل انظر في أعماقها، ولذلك يقول لنا سيدنا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (ثَوِّروا القرآن).
أي: استخرجوا منه الكنوز بالتدبُّر؛ لأن التدبر يحمي من حماقة التفكير، والمثل البسيط المتكرر في بيوتنا هو أننا نغسل أفواهنا بعد تناول الطعام ونتمضمض مِمَّا بَقِي في الفم من بقايا.
ونجد من بين هذه البقايا بعضاً من (الفتافيت الصلبة بعض الشيء)، ثم نغسل حوض المياه بتيار متدفق من ماء الصنبور، ونُفَاجأ بعد فترة من الزمن بانسداد ماسورة الصرف الخاصة بالحوض؛ وحين يفتح السباك ماسورة الصرف هذه يجدها مليئة برواسب من بقايا الأطعمة.
وأنت حين تمضمضتَ لم تلتفت إلا لنظافة الفَمِ من البقايا، ولم تتدبر أمر تلك البقايا، ولو أنك تدبرتَ ذلك لَقُمْتَ بتركيب ماسورة صرف للحوض أكبر من الماسورة التقليدية الضيقة؛ ولَجعلْتَ صندوق الطرد الخاص بالحوض أكبر من الحجم المعتاد والمُجهَّز لصرف المياه فقط.
وهكذا نرى أن الفكر يحثُّك على أن تبحث عن مطلوب لك؛ ولكن عليك أن تنظر وتُدقِّق: هل يحقق لك ما يقترحه عليك فكرك؛ ما يفيدك أم ما يضرك؟
هذا هو التدبُّر، وهو ما نُسمِّيه صيانة الأشياء.
ويتابع الحق سبحانه في نفس الآية: {... يُفَصِّلُ الآيات لَعَلَّكُمْ بِلِقَآءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ} [الرعد: 2].
وتفصيل الآيات يعني أنه جعل لكل أمر حُكْماً مناسباً له. ودائماً أقول لمن يسألني عن فتوى؛ ويُلِحّ أن تتوافق الفتوى مع مراده: (نحن لا نُفصِّل الفتوى من أجل هواك؛ لأن ما عندي هي فتاوى جاهزة؛ وعليك أن تضبط مقاسك أنت على الفتوى، لا أن نُفصِّل لك الفتوى على هواك).
أقول ذلك؛ لأن المسألة ليست حياة تنتهي إلى العَدَم، ولكن هناك حياة أخرى تُحاسب فيها على كل تصرُّف، فالحق سبحانه هو القائل: {وَقَدِمْنَآ إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً} [الفرقان: 23].
وهو القائل سبحانه أيضاً جَلَّ وعلا: {كَرَمَادٍ اشتدت بِهِ الريح فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ على شَيْءٍ...} [إبراهيم: 18].
ولذلك فعليك أن تُقبِل على كل عمل وأنت مُوقِن بأن هذا العمل لا ينتهي بتركك للحياة الدنيا، ولكن لكل عمل آثاره في حياة باقية، وإذا كانت الدنيا تحمل لك راحة موقوتة أو تعباً موقوتاً، فالراحة في الآخرة باقية أبداً؛ والتعب فيها غير مَوْقوت.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {وَهُوَ الذي مَدَّ الأرض...}.


{وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ(3)}
ويتابع الحق سبحانه سَرْد آياته الكونية في هذه الآية: {مَدَّ الأرض...} [الرعد: 3].
يعني أنها موجودة أمامك ومُمْتدة، وبعض الناس يفهمون المَدَّ بمعنى البسط، ونقول: إن البَسْطَ تابع للمَدِّ.
ولذلك وقف بعض العلماء وقالوا: ومن قال إن الأرض كُرَويّة؟
إن الحق سبحانه قال: إنها مبسوطة، وهو سبحانه الذي قال: إنه قد مَدَّ الأرض.
وقلتُ لهؤلاء العلماء: فَلْنفهم كلمة المَدِّ أولاً، وَلنْفهَمْ أيضاً كلمة (الأرض) وهي التي تقف عليها أنت وغيرك، وتعيش عليها الكائنات، وتمتد شمالاً إلى القُطْب الشمالي، وجنوباً إلى القُطْب الجنوبي، أيّاً ما كُنْت في أيِّ موقع فهي مَمْدودة شرقاً وغرباً.
ومعنى: {مَدَّ الأرض...} [الرعد: 3].
تعني أنك إنْ وقفتَ في مكان وتقدمتَ منه؛ تجد الأرض ممدودة أمامك؛ ولا توجد حَافّة تنتهي لها، ولو أنها كانت مبسوطة لَكانَ لها نهاية، ولكانت على شكل مُثلّث أو مُربع أو مستطيل؛ ولكانَ لها حافة؛ ولوجدنا مَنْ يسير إلى تلك الحافة، هو يقول: (لقد وصلتُ لحافة الأرض؛ وأمامي الفراغ) ولم يحدث أنْ قال ذلك واحد من البشر.
وإذا ما سار إنسان على خط الاستواء مثلاً؛ فسيظل ماشياً على اليابسة أو راكباً لمركب تقطع به البحر أو المحيط ليصل إلى نفس النقطة التي بدأ منها سَيْره.
وهكذا نجد الأرض ممدودة غير محدودة، ولا يكون ذلك إلا إذا كانت الأرض مُكوَّرة، بحيث إذا مشيت مُتتبِّعاً أيَّ خط من خطوط العرض أو خطوط الطول لانتهتْ إلى النقطة التي بدأت منها سَيْركَ.
وكان هذا هو الدليل الذي يقدمه العلماء على كروية الأرض؛ قبل أن يخترعوا فكرة التصوير من خارج الغلاف الجوي.
ونأخذ من قول الحق سبحانه: {وَهُوَ الذي مَدَّ الأرض...} [الرعد: 3].
معنى آخر هو ضرورة أن ينظر الإنسانُ في هذا الامتداد؛ ومَنْ تضيق به الحياة في مكان يُمكنه أن يرحلَ إلى مكان آخر، فأرضُ الله واسعة، والحق سبحانه هو القائل: {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ الله وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا...} [النساء: 97].
ونعلم أن فساد العالم في زمننا إنما نشأ من فساد السياسات وزيادة الاضطرابات، وذلك واحد من نتائج تعوق مَدِّ الأرض فساعة يحاول إنسان أن يترك حدود موطنه؛ يجد الحراسات والعوائق عند حدود البلاد المجاورة، وتناسَى الجميع قَوْل الحق سبحانه: {والأرض وَضَعَهَا لِلأَنَامِ} [الرحمن: 10].
فسبحانه قد سَخَّر الأرض وأخضعها للأنام كل الأنام، وإذا لم يتحقق هذا المبدأ القرآني؛ سيظل العالم في صراع؛ وستظلُّ بعض من البلاد في حاجة للبشر وبعض من البلاد في ضِيق من الرزق؛ لزيادة السكان عن إمكانات الأرض التي يعيشون عليها.
وستظل هناك أرض بلا رجال؛ ورجال بلا أرض، نتيجة للحواجز المصطنعة بين البلاد.
وحتى تُحل هذه القضية كما قلنا في الأمم المتحدة لابد من تطبيق المبدأ القرآني: {والأرض وَضَعَهَا لِلأَنَامِ} [الرحمن: 10].
ومَنْ تضيق به الأرض التي نشأ فيها فليسمح له بالهجرة.
ويتابع سبحانه في نفس الآية: {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَاراً...} [الرعد: 3].
والرواسي هي جمع (رَاسٍ) وهو الشيء الثابت.
وسبحانه يقول: {والجبال أَرْسَاهَا} [النازعات: 32].
وهكذا جاء الحق بالحكم الذي شاء أن تكون عليه الجبال، وفي آية أخرى يأتينا الله بعلة كونها رواسي؛ فيقول: {وَجَعَلْنَا فِي الأرض رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ...} [الأنبياء: 31].
أي: لا تضطرب بكم الأرض، ولو كانت الأرض مخلوقة على هيئة الثبات؛ لما احتجْنَا إلى الجبال الرواسي كي تُثبِّتها، ولكن الأرض مخلوقة متحركة، وهي عُرْضة للاضطراب، ولولا الجبال الرواسي لَمَادتْ الأرض.
ولسائل أن يقول: ولكننا نقطع الآن الجبال، ونأخذ الجرانيت من جبل لِنُزيِّن به أرضية بعض المناطق؛ ونقطع الرخام من جبل آخر لنصنع منه حماماتٍ وأحواضاً ودرجات السلالم، ونقتطع بعض أحجار أنواع معينة من الجبال؛ لنستخلص اليورانيوم منها؟
ونقول: انظر إلى حكمة الحق تبارك وتعالى حين خلق؛ وحكمته حين دَبَّر، فهذه الأرض لها محيط؛ ولها مركز؛ ولها أقطار، وكلما اقتربتْ من مركز الأرض فالقطر يَقِلّ.
ومثال هذا هو البطيخة؛ فأنت إن استخلصتَ القشرة الخارجية لها يكون لديْكَ كرة من القشرة الخضراء؛ وكرة أخرى من مُكوِّنات البطيخة التي نأكلها، ولو استخلصتَ كرة أخرى من مكونات الألياف الحمراء التي تتكون منها البطيخة، لصار عندك كرة أخرى، ولصار قُطْر الكرة الجديدة أصغر بطبيعة الحال من الكرة الخضراء.
وكلما استخلصتَ كُريّات أخرى من مُكوِّنات البطيخة؛ صَغُرَتْ الأقطار؛ لأنك تقترب من مركز الدائرة، والمحيط الأخضر الذي يحيط بالبطيخة وهو القشرة؛ يشبه المحيط الذي يوجد على الكرة الأرضية؛ وهذه القشرة التي توجد حول الكرة الأرضية صُلْبة؛ أما ما بداخل الأرض وجَوْفها؛ فهو مُكوَّن من أشياء ومواد متعددة، منها ما هو سائل ومنها ما هو صَلْب.
وكلما اقتربنا من مركز الأرض؛ وجدنا ارتفاعاً في درجة الحرارة؛ وتدلُّنا على ذلك كُتَل الحُمَم التي تخرج فوَّارة من فُوَّهات البراكين؛ وهي حُمَم ذات حرارة مرتفعة للغاية؛ وهي حُمَم مُحْرِقة.
وقد شاء الحق سبحانه أن يجعل بطن الأرض سائلاً، رحمةً بنا؛ ذلك أننا حين نبني بيوتاً؛ أو نقتطع أحجاراً من الجبال؛ أو نستخدم مُكوِّنات الجبال في أي غرض؛ إنما ننقل بعضاً من مُكوِّنات الأرض من موقع إلى آخر.
وحين ينتقل ثقل من مكان على سطح الأرض إلى مكان آخر؛ فالسائل الذي في باطن الأرض ينتقل من المنطقة التي زاد عليها الثقل إلى المنطقة التي خَفَّ من فوقها الثقل ليتحقق التوازن، ولو لم يحدث ذلك لَتسَاقطتْ العمارات الشاهقة التي نراها أثناء دوران الأرض.
والمَثَلُ الذي يُوضِّح ذلك أنك لو وضعتَ قطعة من العجين على سطح بطيخة أو كرة، وجعلت البطيخة أو الكرة في حالة دوران لَطردتْ الكرة أو البطيخة قطعة العجين من على سطحها.
وقد شرح العلماء في «علم الحركة» ذلك فقالوا: إن كل شيء مستدير يتحرك؛ إنما تنشأ عن حركته عملية اسمها الطرد الذاتي؛ لأن قطعة العجين أو أيَّ شيء نضعه على شيء مستدير يتحرك تكون له كثافة وثقل على المنطقة التي يوجد فيها، ويصل هذا الثقل إلى المركز، ولكي تستمر الحركة الدائرية متوازنة لابد أن يطرد الشيء المستدير ما فوقه من ثُقْل زائد.
ولذلك شاء الحق سبحانه أن يجعل نِصْفي الكرة الأرضية من أي موقع تتخيله، متساوياً في الوزن مع النصف الآخر، ومهما أخذتَ من مواد ونقلتَها من موقع إلى آخر، فالوزن يتعادل نتيجة لحركة السوائل التي في بطن الأرض.
وهذا يدلُّ على عظمة الخالق الذي خلق بتدبير دقيق، ويكفي أن ننظر إلى عظمة الحق الذي لم يجعل الجبال رواسيَ ليمنع الأرض من أنْ تميدَ بنا، بل جعل في الجبال والصحاري ما استنجدنا به حين ضاقت الأرض بنا؛ فذهبنا إلى الجبال؛ لنستخرج منها المواد الخام؛ ونُصدِّرها؛ ثم نشتري بثمنها القمح.
ونرى من حولنا الصحاري حيث كان المقيمون فيها يلهثون قديماً من العطش، ولا يجدون شجرة يستظلون بها؛ فيُفجِّر فيها الحق آبار البترول.
وهكذا نرى أن كل قطاع من الأرض فيه خير مُسَاوٍ لأي قطاع آخر من الأرض، وجعل الله لكل أمر زمناً يمكن للبشر أن يستفيدوا من هذا الأمر في ذلك الزمن.
ولذلك نجد الحق سبحانه يقول في الجبال: {قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بالذي خَلَقَ الأرض فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ العالمين وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا في أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَآءً لِّلسَّآئِلِينَ} [فصلت: 9-10].
أي: أنه سبحانه بارك في الجبال،، وهي جزء من الأرض، وشاء أن يُقدِّر الأقواتَ في الجبال والأرض؛ ويكفي أن نعلم أن المطر حين يتساقط من السماء على الجبال؛ فيحمل المطر بعضاً من الطَّمْي من على أسطُح تلك الجبال، فتتجدد خُصوبة الأرض.
ولو كانت الجبال هشة لذابت الجبال من عدد قليل من مرات سقوط المطر، ولذابت القشرة الخصبة التي تغذي النبات حين نزرعه في الأرض.
ولكنه سبحانه شاء أنْ تمُرَّ الظروف الجوية باختلافها وتنوُّعها في تتابع يُوفِّر من الحرارة والرطوبة ما يجعل الأرض تتشقق؛ فيصير سطح الجبال الصّلْبة هَشَّاً لينزل مع المطر؛ ولِيُغذِّي الأرض بالخُصوبة من أجل أن يستمر استبقاء الحياة بإنتاج ما نحتاجه من نباتات مزروعة.
ونلحظ قوله سبحانه في نفس الآية: {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَاراً...} [الرعد: 3].
وهنا يجمع الحق بين الرواسي وهي الثوابت، وبين الأنهار وهي التي تحمل الماء السائل، وهذا جَمْعٌ بين الأضداد.
والنهر يُطلق على ما يحمل المياه العَذْبة؛ أما البحر فهو المُكوَّن من الماء المالح، وأنت إذا استعرضت أنهار الدنيا كلها؛ ستجد أن مجاريها تصبُّ في البحار، وهذا دليل على أن منسوب النهر أعلى دائماً من منسوب البحر، ولو كان الأمر بالعكس؛ لَطَغى ماء البحر على مياه النهر، ولَمَا استطعنا أن نشرب أو نزرع.
ولذلك شاء الحق سبحانه أن يجعل الماء العذب هو الأعلى؛ لأن له مهمة يُؤدِّيها قبل أن يصُبَّ في البحر. أقول ذلك حتى نعلم الحكمة في قول الحق سبحانه: {بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبْغِيَانِ} [الرحمن: 20].
ومن العجيب أن البرزخ الذي يفصل بين النهر والبحر يكون انسيابياً، يتدرج نزول مياه النهر في مياه البحر بما يُحقِّق سهولة في هذا الانتقال، ومن العجيب أيضاً أنك إنْ حفرتَ عند شاطئ البحر قد تعثر على الماء العذب.
ولذلك حين نزور العريش نجد شاطئاً باسم شاطئ النخيل؛ ونحن نعلم أن النخيل يحتاج إلى الماء العَذْب، وكأن الحق سبحانه قد جعل في هذا النخيل خاصية استخلاص الماء العَذْب من هذا المكان الذي يوجد على البحر؛ وقد تكون له جداول عذبة.
فسبحانه القائل: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأرض...} [الزمر: 21].
ونحن في الريف نجد من يحفر بئراً ويكون ماؤه عَذْباً؛ وآخر يحفر بئراً ويكون ماؤه مالحاً. وهذا دليل على أن الماء في بطن الأرض غير مختلط، بل لكل ماء مسارب تختلف باختلاف نوعية المياه.
ويُرتِّب الحق سبحانه في نفس الآية مجيء الثمرات كنتيجة على وجود الثابت الجبال كمصدر للغِرْيَن وخصوبة الأرض، وعلى وجود الأنهار التي تحمل الماء اللازم للري، وهكذا يكون مجيء الثمرات أمراً طبيعياً.
والثمرة كما نعلم هي الغاية من أي زرع.
وفي نفس الآية يواصل الحق ذكر عطائه، فيقول سبحانه: {وَمِن كُلِّ الثمرات جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثنين...} [الرعد: 3].
ويستعمل البعض كلمة (زوج) ويراد به شيئان كقولنا (زوج أحذية) مع أن التعبير الدقيق يقتضي أن نقول (زوجان من الأحذية) كتوصيف لفردة حذاء يُمْنى وفردة حذاء يسرى؛ لأن كلمة (زوج) مرد، وتستخدم في الشيء الذي له مثْل؛ ولذلك نجد العدد الفردي والعدد الزوجي؛ والعدد الزوجي مُفْرد له مثيل؛ وفي الإنسان هو الذكر والأنثى.
وسبحانه القائل: {وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ} [الذاريات: 49].
ويخطئ الناس أيضاً في فهم كلمة التوأم، ويظنون أنها تعني الاثنين اللذين يولدان معاً، ولكن المعنى الدقيق للتوأم وهو الفرد الذي يُولَد مع آخر، ويقال لاثنين معاً (التوأمان).
وهنا يقول الحق سبحانه: {وَهُوَ الذي مَدَّ الأرض وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَاراً وَمِن كُلِّ الثمرات جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثنين...} [الرعد: 3].
ولم يخلق الحق سبحانه أيَّ شيء إلا وشاء له أن يتكاثر، مصداقاً لقول الحق سبحانه: {سُبْحَانَ الذي خَلَق الأزواج كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الأرض وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ} [يس: 36].
وكُلُّ تكاثر إنما يحتاج إلى زوجين، وكنا نعتقد قديماً أن التكاثر يحدث فقط في النبات؛ مثلما نُلقِّح النخلة بالذَّكَر، وفي الحيوان يخصب الفَحْل الأنثى، ثم كشف لنا العلم بعد ذلك أن الكهرباء على سبيل المثال لا الحصر تتكون من سالب وموجب وغير ذلك كثير، وكل ما قدمه العلم من كشوف يؤيد صِدْقه سبحانه: {سُبْحَانَ الذي خَلَق الأزواج كُلَّهَا...} [يس: 36].
ويتابع سبحانه في نفس الآية: {يُغْشِي الليل النهار...} [الرعد: 3].
أي: أن تأتي الظُّلْمة على النهار فتُغطيه؛ وهو القائل في موقع آخر من القرآن: {فَمَحَوْنَآ آيَةَ الليل وَجَعَلْنَآ آيَةَ النهار مُبْصِرَةً...} [الإسراء: 12].
وذلك تحقيقاً لمشيئته التي قالها: {وَهُوَ الذي جَعَلَ الليل والنهار خِلْفَةً...} [الفرقان: 62].
وإن سأل سائل: هل الليل هو الذي خُلِقَ أولاً أم النهار؟
أقول: نحن نرى الآن الليل والنهار، كُلٌّ منهما يُؤدِّي مُهِمَّته في نصفٍ ما في الكرة الأرضية، وكل منهما يخلف الآخر، ولابد أن الأمر كذلك من أول الخلق.
فإنْ كان سبحانه قد أوجد الأرض مبسوطة وفي مواجهتها الشمس، لَكان النهار هو الأسبق في الخَلْق، وإنْ كان قد خلق الشمس غير مواجهة للأرض؛ يكون الليل هو الذي سبق النهار في الخَلْق.
ويوضح الحق سبحانه هذا الأمر قليلاً في سورة يس حين يقول: {لاَ الشمس يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ القمر وَلاَ الليل سَابِقُ النهار وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس: 40].
وكان العرب قديماً يظنُّون أن الليل هو الذي سبق النهار في الخَلْق؛ لأنهم كانوا يُؤرِّخون الشهور بالقمر؛ فيدخل الشهر بليله لا بنهاره، ونحن نعلم أن رمضان يأتينا بأول ليلة فيه.
وقد أوضح الحق سبحانه لهم على قَدْر معارفهم، ثم ثبت لنا أن الليل والنهار قد وُجِدا في وقت واحد بعد أن وضحتْ لنا أن صورة الأرض كروية، وأنه سبحانه قد خلقها كذلك، فما واجه الشمس كان نهاراً؛ وما غابتْ عنه الشمس كان ليلاً، ويخلف كل منهما الآخر.
وهكذا وضَّح لنا أنهما موجودان في آنٍ واحد.
ويُذيِّل الحق سبحانه الآية الكريمة بقوله: {... إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الرعد: 3].
أي: أن على الإنسان مسئولية التفكُّر فيما يراه من حوله ليصل إلى لُبِّ الحقائق.
ويقول سبحانه بعد ذلك: {وَفِي الأرض قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ...}.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8